Baik (Toyyib)

Baik (Toyyib)

Hidup Pertengahan

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)

إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعا , فتقيم بينهم العدل والقسط ; وتضع لهم الموازين والقيم ;وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد ; وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها , وتقول:هذا حق منها وهذا باطل . لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها . وهي شهيدة على الناس , وفي مقام الحكم العدل بينهم . . وبينما هي تشهد على الناس هكذا , فإن الرسول هو الذي يشهد عليها ; فيقرر لها موازينها وقيمها ; ويحكم على أعمالها وتقاليدها ; ويزن ما يصدر عنها , ويقول فيه الكلمة الأخيرة . . وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها . . لتعرفها , ولتشعر بضخامتها . ولتقدر دورها حق قدره , وتستعد له استعدادا لائقا . .
وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل , أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد , أو من الوسط بمعناه المادي الحسي . .
(أمة وسطا). . في التصور والاعتقاد . . لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي . إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد , أو جسد تتلبس به روح . وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد , وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها , وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع , بلا تفريط ولا إفراط , في قصد وتناسق واعتدال .
(أمة وسطا). . في التفكير والشعور . . لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجرتة والمعرفة . . . ولا تتبع كذلك كل ناعق , وتقلد تقليد القردة المضحك . . إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب ; وشعارها الدئم:الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها , في تثبت ويقين .
(أمة وسطا). . في التنظيم والتنسيق . . لا تدع الحياة كلها للمشاعر , والضمائر , ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب . إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب , وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب ; وتزاوج بين هذه وتلك , فلا تكل الناس إلى سوط السلطان , ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان . . ولكن مزاج من هذا وذاك .
(أمة وسطا). . في الارتباطات والعلاقات . . لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته , ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة ; ولا تطلقه كذلك فردا أثرا جشعا لا هم له إلا ذاته . . إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء ; وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه . ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو , ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة ; وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادما للجماعة , والجماعة كافلة للفرد في كافلة للفرد في تناسق واتساق .
(أمة وسطا). . في المكان . . في سرة الأرض , وفي أوسط بقاعها . وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب , وجنوب وشمال , وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعا , وتشهد على الناس جميعا ; وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة ; وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك ; وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء .
(أمة وسطا). . في الزمان . . تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها ; وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها . وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها ; وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى ; وتزواج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات , ورصيدها العقلي المستمر في النماء ; وتسيربها على الصراط السوي بين هذا وذاك .
وما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها , إلا أنها تخلت عن منهج الله الذي اختاره لها , واتخذت لها مناهج مختلفة ليست هي التي اختارها الله لها , واصطبغت بصبغات شتى ليست صبغة الله واحدة منها ! والله يريد لها أن تصطبغ بصبغته وحدها .
وأمة تلك وظيفتها , وذلك دورها , خليقة بأن تحتمل التبعة وتبذل التضحية , فللقيادة تكاليفها , وللقوامة تبعاتها , ولا بد أن تفتن قبل ذلك وتبتلى , ليتأكد خلوصها لله وتجردها , واستعدادها للطاعة المطلقة للقيادة الراشدة .